الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز

رسالة (4)

هو ثامن الخلفاء الأمويين، الذي عده المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين بعد  "أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب" صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم.

كيف ملئ هذا الخليفة الفذ الورع التقي الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا خلال سنتين و5 أشهر فقط؟!!

كيف حكم دولة امتدت اطرافها من الاندلس غرباً حتي الصين شرقاً؟!

ما هي ملامح شخصيته؟ لماذا عده المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين؟!!

فلنحلق معاً إلي فترة زمنية من أزهى فترات العصر الإسلامي.

لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، تشاور الصحابة فيما بينهم من سيخلف أمر المسلمين؟ فاختاروا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لأنه كان أكثر الناس قربا إلي النبي، وأول من أسلم من الرجال، ثم لما نزل بأبي بكر الوفاة، استخلف عمر بن الخطاب بالشورى والمبايعة من المسلمين، ثم إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. ظل الأمر هكذا في اختيار خليفة المسلمين الأرشد والأكفأ عن طريق الشورى والمبايعة. إلي أن حدثت الفتنة الكبرى وآلي الأمر إلي سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه "مؤسس الدولة الأموية" لمدة عشرين عاما،ولما دانته الوفاة، خشي سيدنا معاوية من اختلاف المسلمين من بعده بسبب ما حدث في الفتنة الكبري، فولي الأمر من بعده لابنه يزيد بن معاوية حقناً للدماء، وهكذا بقي الأمر بين يدي بني أمية حتي نهاية الدولة الأموية، ويجب أن ننأي بأنفسنا عن الكلام في سيدنا معاوية فإنما هو اجتهد بما يراه فيه صلاح الأمة، فهو صاحب رسول الله، وأحد كُتاب الوحي، واتسعت الفتوحات الإسلامية في عهده، ليٌبلغ أمر هذا الدين إلي أقاصي الأرض، طوعا لا كرها، فمن حق كل الناس أن يستمعوا لنداء الوحي، ويبلغوا كلام الله، ومن شاء فليؤمن، والفتوحات الإسلامية لم تكن إكراها علي الدين بل تبليغ الدعوة وجهاد من يمنع وصول كلام الله إلي الناس.

لما مات عبد العزيز وكان والي مصر في عهد عبد الملك بن مروان خامس خلفاء الدولة الأموية، بعث إلي ابن أخيه عمر، فخلطه بولده، وقدمه علي كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، ابنة كريمة، بارعة الجمال، ذات عقل وكمال، وقد كان ذلك من تمام نعمة الله علي عمر بن عبد العزيز.

وجهز عبد الملك ابنته بأحسن الرياش، وأنعم الثياب، وشيد لها قصرا، وأهداها جواهر نفيسة، تقدر بمائة ألف دينار.

ولقد هيمنت روح عمر علي زوجته بنت الخليفة وأخت الخليفة وجدها الخليفة، وربية القصور فصارت وزوجها كأنهما في روح واحدة، وعقل واحد، وتفكير واحد، دانت لتوجيهاته، حتي إنها أصبحت تشفق عليه من ذلك الموقف المهول بين يدي الله تعالي، حين يقفه ليسأله عما استرعاه بعد أن أصبح خليفة المسلمين.

حدث مرة أن واعظا أخذ يُذكر عمر بالقبر وأهواله، فشهق عمر شهقة، وخر مغشياً عليه، فقالت فاطمة لمولاه مزاحم: يا مزاحم، ويحك! أخرج هذا الرجل عنا، فلقد نغص علي أمير المؤمنين الحياة منذ ان ولي، فليته لم يولي، قال: فخرج الرجل، فجاءت فاطمة تصب علي وجهه الماء وتبكي، حتي أفاق من غشيته، فرآها تبكي فقال: ما يبكيك يا فاطمة؟ قالت: يا أمير المؤمنين، رأيت مصرعك بين أيدينا فذكرت به مصرعك بين يدي الله للموت، وفراقك لنا، فقال: حسبك يا فاطمة فلقد أبلغتِ، ثم مال ليسقط، فضمته إلي نفسها، فقالت: بأبي أنت يا أمير المؤمنين، ما نستطيع ان نكلمك بكل ما نجد لك في قلوبنا، فلم يزل علي حاله حتي حضرته الصلاة ثم نادته: الصلاة يا أمير المؤمنين، فأفاق فزعا!

كانت شديدة الإعجاب بزوجها، دائمة البر به تقول فيه بعد وفاته: والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياماً، ولكن والله ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاضة العصفور من شدة الخوف.

نظر إلي حليها الذي جاءت به من بيت أبيها بعد توليه الخلافة  فأراد تجريدها منه، فقال لها: اختاري إما أن تردي حليك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين وعلى أضعافه لو كان لي.

لكن تلك الرعاية من عمه لم تمنعه من أن يقف مواقفه الصلبة، فيقول كلمة الحق، وكان ينظر في أحوال الرعية ويبث شكواه إلي عمه عبد الملك، وكان ينتقد سياسة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي أزهق أرواحاً، وسفك الدماء فأرسل إليه كتاباً ورد الحجاج إنه يفعل ذلك لتوطيد دولته من الفتن. ولما مات عبد الملك بويع ولي عهده ابنه الوليد بن عبد الملك. وما أن استقر الأمر إلي الوليد، قال له أخوه سليمان: يا أمير المؤمنين، اعزل الحجاج، فالذي أفسد أكثر مما أصلح، فأجابه الوليد: إن أبانا قد أوصانا به خيراً، فتصدى عمر لهذا الجواب فقال: عزل الحجاج والانتقام منه من طاعة الله، وتركه من معصية الله، فسكت الوليد وقال: سننظر في الأمر إن شاء الله.

ولي الوليد علي الحجاز عمر بن عبد العزيز لما كثرت شكوى الناس من واليهم، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، فتهلل الناس لما عرفوا عنه بالصلاح والتقوى، حتى جعل الحجاز حرماً آمناً للفارين من عسف الحجاج وغشمه.

وكان عبد الملك الأب ولي العهد لابنه الوليد ومن بعده أخوه سليمان ولكن الوليد عزم أن يعزل أخاه سليمان من العهد، وأن يجعل ولي عهده ابنه عبد العزيز بن الوليد فوافقه كثير من الأشراف طوعاً وكرهاً، وامتنع عمر بن عبد العزيز وقال: يا أمير المؤمنين، إنا بايعنا لكما في عقدة واحدة، فكيف نخلعه ونتركك؟! فأخذه الوليد وحبسه في حجرة ليس بها اي منافذ بلا طعام ولا شراب وتركه حتي استشفع عنده بعض الناس ففتح عنه بعد ثلاث أيام، فأدركوه كاد أن يهلك، ومالت عنقه، ولكنه لم يتزحزح عن قوله الحق!! فحفظها له سليمان.

بعد موت الوليد بويع لأخيه سليمان بن عبد الملك، وكان عصره مقدمة لعصر عمر بن عبد العزيز في التدين وتطبيق الشرع. وكان سليمان يكره الحجاج وسياسته في الرعية وكان الحجاج قد مات ولكنه عزل عمال الحجاج وكانت لسليمان البطانة الصالحة، فاختار الوزراء الصالحين أمثال عمر بن عبد العزيز وأطلق سليمان لعمر اليد فقام بإصلاحات كبيرة.

لما ثقل سليمان المرض، كان عليه أن يختار من سيكون ولي عهده من أبنائه، ولقد كان القدر يوجه الأمور ليصبح عمر خليفة المسلمين، فأحد أبناء سليمان كان صغيراً، والأخر في الحرب على جبهة الروم بالقسطنطينية، فكان يريد أن يستخلف الرجل الصالح، وكان لسليمان أخوة كبار فعلم إنهم لم يتركونه أبداً يلي عليهم عمر ولتكونن فتنة، إلا أن يجعل أحدهم بعده، فجمع أهل بيته، فقال لهم سليمان: هذا الكتاب -يشير إليه- هذا عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب، فبايعوه رجلاً رجلاً. فلما مات سليمان، ودفنه عمر بن عبد العزيز، اجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم!

فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك. فلما هدأت الأصوات خطب في الناس:

يا أيها الناس، إن الله لم يبعث بعد نبيكم نبياً، ولم يُنزل بعد هذا الكتاب الذي أنزله عليه كتاباً، فما أحل الله علي لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلي يوم القيامة، ألا وإني لست بخيركم، ولكني رجل منكم، غير إني أثقلكم حملاً. وهكذا سيقت إليه الخلافة سوقاً من غير طلب منه ولا سعي!!

يمكن أن نحدد المعالم الرئيسية في التركة القاتلة التي خلفتها العصور المتلاحقة من بعد معاوية وحتي نهاية عصر سليمان، بما يلي:

  • الانحراف عن الطريق الإسلامي الصحيح في أصول الحكم، حيث أصبح وراثيا، واختفت الشوري غالباً، واستغناء الحاكم بنفسه وحاشيته، القسوة والظلم الناتج عن بسط سلطان الدولة وإخماد الثورات، وأعمال الحجاج خير شاهد على ذلك، وحرمان الموالي من حقوقهم، وامتلاء السجون، وهروب المعذبين من بعض الأمصار من قبضة الحجاج إلي الحجاز حيث كان أميرها عمر بن عبد العزيز.

  • الترف الفظيع لبعض فئات الأمة وحرمان فئات أخري حيث كان يُغدق على المقربين وحرمان الكثيرين من أصحاب الحقوق وهذا ما عرف في عهد عمر "بالمظالم" التي أخذها من بني أمية خاصة ومن غيرهم وردها إلي مكانها، ودور الشعراء في تملق الحاكم.

  • الثروات والفتن التي يلتهب سعيرها بين الحين والآخر، فتخمد بقوة وعنف.

وقد قال جملته الشهيرة:

الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، ومحمد بن يوسف -أخو الحجاج- باليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك بمصر، ويزيد بن أبي مسلم بالمغرب، امتلأت الأرض والله جوراً!!

وجملة القول أن بني أمية قد نشروا الإسلام، ووضعوا أصول الدولة الإسلامية، وأنظمة الاقتصاد ولئن كانت لهم أخطاء وذنوب وقبائح، فإنما مرد معظمها إلي رغبتهم في استمرار دولتهم، لا لاسترسالهم في الشر، والله يغفر لهم ذلك إن شاء سبحانه.

كان عمر قبل أن يُستخلف من أعطر الناس، وأحسنهم لباساً، وألينهم طعاما، وأكثرهم رفاهاً، وأهنئهم عيشاً، فهو ربيب بيت الخلافة، وابن القصور التي كان يعب فيها من النعيم عباً، وما أن تسلم مقاليد الحكم وأصبح خليفة المسلمين، حتى انقلب إلي زاهد رهباني كأنما عاش في صومعة علي كسرات خبز تسد جوعته، وثوب واحد يستر جسمه!! هو ذلك الخليفة الذي ترك كل ذلك حتي يستغني كل فقير، ويشبع كل جائع، ويداوي كل مريض، وينصف كل مظلوم، ويجبر كل كسير، ويقهر كل ظالم، فكان الذي أراد.

والعجيب في هذا الخليفة أنه لم يكن شيخا ولت شهواته بل كان في فورة الشباب ابن سبع وثلاثين، يملك نفسا تواقة لكن الفهم العميق لمسؤولية الحكم، وتمثل المساءلة بين يدي الله سبحانه، هو الذي قلب كيانه في اللحظة التي نودي فيها ب"أمير المؤمنين". تلك المراقبة الدائمة لله كانت تستولي علي مشاعره، حتي كان يقول:

يا معشر المستترين، اعلموا ان عند الله مسائلة فاضحة، قال الله تعالي: "فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون" صدق الله العظيم. حتي إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وانتفض انتفاضة الطير وبكي حتي تجري دموعه علي لحيته. وإذا ما ذكر وقوفه بين يدي الله بكي من هول الموقف ولربما خر مغشيا عليه. لقد نحل جسمه بعد أن ولي الأمر، يخشي أن يملأ معدته، وفي رعيته جائع يسأله الله عنه: كيف شبعت وفي رعيتك هذا الجائع؟!

دخل علي امرأته يوماً فقال لها: يا فاطمة، عندك درهم أشتري عنباً؟ قالت: لا. فقالت: أنت أمير المؤمنين لا تقدر علي درهم تشتري بها عنباً؟! قال: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غداً في نار جهنم. ولقد عبرت زوجته عن ذلك، فقالت: يا ليتنا كان بيننا وبين هذه الإمارة بُعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها!!

ولقد عاش آل عمر معه هذه العيشة الصعبة، فصبروا راضين غير ساخطين، فإن عمر غمرهم بفيوضات روحه الطاهرة.

ولقد صور هذه الحقيقة أجمل تصوير خادم له، لما سأله عمر: كيف حال الناس؟ فقال: كل الناس في راحة، إلا أنا وأنت!!

لقد كان يخشي الله حق خشيته ويقدره حق قدره، ويعلم ما في الآخرة من أهوال، حتى أدخله الخوف في المرض. ولما مرض جئِ بطبيب إليه، فقال: به داء ليس له دواء، غلب الخوف على قلبه!!

ولم تزده الخلافة إلا تواضعا، لم يتكبر على أحد من عباد الله، يجلس بين الناس على الأرض، ويأبى أن يسير الحرس بين يديه، يقول رجاء بن حيوة " سمرت معه ذات ليلة فانطفأ السراج، وإلي جانبه وصيف راقد قلت: أفلا تنبه؟ قال: لا، دعه يرقد. قلت أفلا أقوم أنا؟ قال: لا، ليس من مروءة الرجل استخدام ضيفه، ثم قام فأصلح السراج ثم رجع وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز!!

ولما حاول صاحب الشرطة أن يمشي بين يدي عمر بالحربة- كما كان شأنه مع الخلفاء السابقين- انتهره عمر، وقال له: ما لي ومالك؟! تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين!!

وكلمه رجل يوما حتي أغضبه، فهمَّ به عمر، ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزَّني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً؟! قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك.

وكان رحيماً برعيته، أُخبر بأن أحد من جنود الإسلام البواسل الذين كانوا يحاصرون القسطنطينية، قد وقع أسيراًً في يد الرومان، وحُمل إلى الامبراطور الروماني، فحاول إكراهه على الخروج من الإسلام، فتأبي المسلم، فأمر الطاغية أن تفقأ عيناه!

فما أن وصل النبأ إلى عمر حتي وجه إليه كتاباً عاصفاً قال فيه: أما بعد: فقد بلغني ما صنعت بأسيرك، وأني أقسم بالله، لئن لم ترسله إليّ من فورك لأبعثن إليك من الجند ما يكون أولهم عندك وآخرهم عندي.

فارتعدت فرائص ملك الروم، فرد الأسير إلي أهله ووطنه.

وأما رحمته لأهل الذمة، فقد أرسل إلي عامله علي البصرة، يقول: انظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.

بل وقد اتسع قلبه الكبير لكل ذي روح في دولته الواسعة، فوجه إلي والي مصر كتاباً، قال فيه: أما بعد: فقد بلغني أن الحمالين في مصر يحملون علي ظهور الإبل فوق ما تطيق، فإذا جاءك كتابي هذا، فامنع أن يحمل علي البعير أكثر من ستمائة رطل.

لقد كان النموذج الفذ الرفيع للحاكم المسلم، الصالح المصلح، وحقق في أيام خلافته المباركة معجزة بكل ما في هذه الكلمة من معني، ففي اللحظة الأولي لخلافته أعلن أن الأمة هي صاحبة الحق في تعيين الخليفة، فخلع ولاية العهد، وخيّر الناس، وأقام العدل ونشر راياته، وحارب الظلم، ورد المظالم، ونزع الأموال من بين يدي بني أمية مما ليس لهم بحق، وأمر ولاته أن يفعلوا كذلك. فاستغاث بنو مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئاً، فأتوا عمتهم فاطمة بنت مروان، فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالهم، وكانت هذه المرأة لا تحجب عند الخلفاء، كانوا يكرمونها وكذلك عمر، فلما دخلت عليه، فرآها غضبي، فقال لها عمر: يا عمة، مالك؟ فقالت: بنو أخي عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك؟؟ وتأخذ أموالهم وتعطيها لغيرهم، ويُسبون عندك فلا تنكر؟! فقال: يا عمة، اعلمي أن النبي مات، وترك الناس علي نهر مورود، فولي ذلك النهر رجل فلم يستنقص منه شيئاً حتي مات، ثم ولي ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر، فلم يستنقص منه شيئاً حتي مات، ثم ولي ذلك النهر رجل آخر فكرت منه السواقي ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي، حتي تركوه يابساً لا قطرة فيه. وايم الله، لئن أبقاني الله لأردنه إلي مجراه الأول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

وعن إسماعيل بن أبي حكيم قال: آتي عمر بن عبد العزيز كتاب من بعض بني مروان فأغضبه، فاستشاط غضباً، ثم قال: إن لله في بني مروان ذبحاً، وايم الله، لئن كان ذلك الذبح علي يديّ!!

قال فلما بلغهم ذلك كفوا، وكانوا يعلمون صرامته، وإنه إن وقع في أمر مضي فيه.

وأقام الحدود وأعطاها قداستها لما فيه حفظ للأمة من شرور الناس، الذين لم يتعظوا، ويعيثوا في الأرض فساداً، وقضي أن من يُخيف الشهود بالجلد ثلاثين جلدة، وأرسل أوامره بذلك إلي الولاة والقضاة، وأختار الولاة الأكفاء، وأمرهم بالعدل ومنع الولاة من التجارة والأعمال الأخرى حتى لا يستغلوا مناصبهم، فيعنتوا الناس، وفتح الأبواب لكل أحد.

واتبع معهم سياسة لا مركزية، فأعطاهم حرية العمل في شؤون البلاد، إلا أن يكون قتل نفس فلا بد من استشارته. وسلط الرعية علي الأمراء، وقال لهم: من ظُلم فليأتني، ولا إذن له عليَّ.

واعتبر الهدية للحاكم رشوة، قيل له: ألم يكن رسول الله صلي الله علي وسلم يقبل الهدية؟ قال: بلي، إن الهدية كانت للنبي هدية، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة.

وأحسن إدارة الأموال في بيت المال، فكانت تجتمع فيه أموال الزكاة "مبلغ يخرج من أموال المسلمين بنسبة إثنين ونصف بالمائة من الدخل السنوي يُعطي لمستحقيه من الفقراء والمساكين والمحتاجين"، والخراج "ضريبة تفرض مقابل استثمار الأرض" والجزية "مبلغ مالي يفرد علي أهل الذمة علي الرجال القادرين مقابل إنهم ينعمون بالعيش الآمن، والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين، علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم، واعفائهم من الخدمة العسكرية، حيث أن المسلمين يقدمون حياتهم وأرواحهم فديّ لمن دخل في حماهم وأصبح في ذمتهم -ذمة الله ورسوله- ويُعفي منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ والأرقاء والشيوخ والعجزة والعمى" والغنائم والتركات التي لا وارث لها، وغيرها. كل هذا اجتمع في خزينة الدولة بما يصب في الصالح العام. وكذلك باع ما كان في سرادقات قصر الخلافة، وباع مراكب الخلافة، وكانت رجال الشرطة يحملون سيوفاً محلاّة بالذهب والفضة، فأمر بنزع الذهب والفضة منها وضم ذلك إلى بيت المال.

وأمر بضرب النقود فضربت له الفلوس، وكتبوا عليها: أمر عمر بالوفاء والعدل.

فقال: اكسروها، واكتبوا: أمر الله بالوفاء والعدل.

وكان من قبله يأخذ الضرائب ممن يمر على الجسور والمعابر، فرأى عمر في ذلك ظلماً للناس، فمنعه. وألغى الضرائب الأخرى التي أرهقت كاهل الناس، ووضع عنهم الجمارك، وأمر بتهديم البيوت التي تُتخذ لجمعها.

ورفع مكانة العلم، فدَّون الحديث، وفرض الرواتب للعلماء وطلبة العلم، ليتفرغوا لذلك. وقسم الأعطيات بالسوية بين الناس: عربيهم ومواليهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم. وحمَّل بيت المال نفقات الزواج لكل شاب يريد النكاح ولا يجد ما يلزمه لذلك، بل إنه فرض عطاء لمن يريد الحج من المسلمين، وليس له عطاء ولم يقدر علي نفقات السفر، وأمر بإنشاء مراكز علي طرقات الحجيج، يتواجد بها إناس أقوياء، يعينون الضعيف، ويغنون الفقير.

وكان مناديه في كل يوم ينادي: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامي؟ حتي أغني كل الناس، فلم يبقي محتاج، ولا من يقبل صدقة.

وعين خادماً للعميان، والمقعدين واليتامي. وأصلح التجارة والزراعة والاقتصاد، ووحد المكيال، وجعل الدولة تتحكم في سياسة النقود، ونشر الإسلام في أصقاع الأرض، حتى دخله البربر، وملوك الهند والسند ومن تابعهم. وأعلن أن المال ليس للتخزين، بل لصلاح البلاد والعباد.

وأرسل الفقهاء إلى إفريقية ليُفقهوا أهلها ويعلموهم، وينشروا حديث رسول الله،وكانت الكتب توجّه إلي الولاة والأمراء ليعملوا بها، وقد أمر بنشر العلم وذم كتمانه، أهتم باللغة العربية، وشجع البلاد المفتوحة على تعلمها وإتقانها، اهتم بتدوين الحديث النبوي، فلولاه لضاع الكثير منه، وناقش أصحاب المذاهب الفكرية الضالة كالخوارج والقدرية حتى رد معظمهم إلي الصواب، وطواهم تحت جناحه، فوحد الأمة، وعاش الجميع في سلام.

وكان يريد المزيد من كل شئ خيّر صالح، فحقق الله ذلك على يديه، فرد المظالم والحقوق إلى أصحابها، وأنصف كل رجل في أطراف دولته الواسعة، فاستغني الفقراء، وشبع الجياع، واطمأن الخائفون، ورفع الظلم بشتى أشكاله، فعم الأمن والسلام، حتى أنهم ليقولون إن الشياه والذئاب والوحوش كانت ترعى في مكان واحد فلا تعتدي الوحوش على الشياه .!!

وكان يغتنم كل فرصة ليصحح المسار، ويقوم الاعوجاج، ويلغي كل الفوارق المصطنعة بين الناس، مما مقته الإسلام وجاء لنسفه.

تلك هي سياسة عمر بن عبد العزيز في جمع المال وصرفه، وإيصال الحقوق إلى أهلها، حتى استغنى الناس جميعاً. ولنكاد نُذهل من ذلك الإجماع التاريخي الذي يحدثنا عن اختفاء الفقر والفقراء فلا يجدون فقيراً يبسط يده. لقد اغتنى الناس في الشام ومصر والعراق وخراسان وافريقية والأندلس وبلاد ما وراء النهر، وسائر أمصار الدولة الإسلامية من المحيط الأطلسي في أقصي الغرب إلي الصين في أقصي الشرق.

والذي يدهش حقاً أن كل تلك الأعمال لم تستغرق زمنا طويلا، لا عشرين عاماً، ولا عشرة، ولا خمسة، بل استغرقت سنتين وخمسة أشهر!!

إن عمر بن عبد العزيز قد أصلح في أقل من ثلاثين شهرا دولة مترامية الأطراف، تمتد من الأندلس غربا إلي الصين شرقا! كيف؟!

بالإسلام وحده.

إنه الإسلام العظيم، الذي إذا وُجد الحاكم الصالح الكفء العليم، المخلص لربه ودينه ونبيه وأمته، فسيحقق مثل الذي جاء به عمر. فقد حمل القرآن بيمينه، واندفع كالريح يعمل ويعمل، وينجز وينجز، حتي أسلم الراية وأدي الأمانة، ونصح للأمة، فرضي الله عنه وأرضاه، فهو الذي تحققت فيه نبوءة النبي في قوله: إن رخاء هذه الأمة بعد المائة -أي المائة سنة الأولي- حيث خلافة عمر بن عبد العزيز.

هذه سيرته ليقتدي به من أقامهم الله علي رقاب الناس.

وكانت آخر خطبة له أنه صعد المنبر فقال:

أيها الناس، إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تُتركوا سٌديً، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم بين عباده، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالي، التي وسعت كل شئ، وحُرم جنة عرضها السموات والأرض. ألا واعلموا أنما الأمان غداً لمن حذر الله وخافه، وباع نافداً بباقٍ، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون، كذلك حتي تُرد إلي خير الوارثين. وفي كل يوم تُشيِّعون غادياً ورائحاً إلي الله، قد قضي نحبه، وانقضي أجله، فتُغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسَّد ولا ممهد، قد فارق الأحباب، وخلع الأسباب، فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مٌرتهن بعمله، فقير إلي ما قدَّم، غنيَّ عما ترك. فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته. وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، ولكني أستغفر الله وأتوب إليه.

ثم رفع طرف ردائه فبكي حتي شهق ثم نزل، فما عاد إلي المنبر حتي مات رحمة الله عليه.

التعليقات


لا يوجد تعليقات علي هذا المقال

- من فضلك, سجل دخولك للتمتع بكامل صلاحيات المشاركة .

شارك برأيك

إلغاء